فصل: المقصد الأول في وجه احتياج الكاتب إلى ذلك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.المقصد الثاني في كيفية تصرف الكاتب:

في علم العربية واعلم أن انتفاع الكاتب بالنحو من وجهين: أحدهما الإعراب وما يلحق به ومن أهم ما يعتنى به من ذلك النسب لكثرة استعماله في الألقاب ونحوها، وكذلك العدد فإنه مما يقع فيه اللبس على المبتدئ؛ ومحل ذلك كله كتب النحو. الثاني فيما يقع الكاتب فيه بطريق العرض، فيحتاج من ذلك إلى معرفة النحاة ومشاهير أهل العربية كأبي الأسود الدؤلي، وسيبويه، والفراء، وأبي علي، وأبي عثمان المازني وغيرهم من المتقدمين، وابن عصفور وابن مالك وابن معطي وغيرهم من المتأخرين، وكذلك أسماء كتبهم المشهورة في هذا الفن: من المبسوطات والمختصرات من كتب المتقدمين والمتأخرين ومصطلحاتهم التي اصطلحوا عليها: من ذكر الاسم، والفعل، والمعرفة، والنكرة، والمبتدأ، والخبر، والحال، والتمييز؛ وألقاب الإعراب: من الرفع والنصب والجر والجزم وغير ذلك مما تجري به عباراتهم، ويدور على ألسنتهم في استعمالاتهم، من قولهم ضرب زيد عمراً ونحو ذلك ليدرج ما عن له من ذلك في خلال كلامه حيث احتاج إليه في التواقيع والمكاتبات وغيرها.
قال في التعريف في وصية نحوي: وهو زيد الزمان، الذي يضرب به المثل، وعمرو الأوان؛ وقد كثر من سيبويه الملل ومازني الوقت لكنه لم يستبح الإبل، وكسائي الدهر الذي لو تقدم لما اختار غيره الرشيد للمأمون، وذو السؤدد لا أبو الأسود على أنه ذو السابقة والأجر الممنون. وهو ذو البر المأثور، والقدر المرفوع ولواؤه المنصوب وذيل فخاره المجرور. والمعروف بما لا ينكر لمثله من الحزم، والذاهب عمله الصالح بكل العوامل التي لم يبق منها لسحوده إلا الجزم. وهو ذو الأبنية التي لا يفصح عن مثلها الإعراب، ولا يعرف أفصح منها فيما أخذ عن الأعراب. والذي أصبحت أهدابه فوق عمائم الغمائم ثلاث، ولم يزل طول الدهر يشكر منه أمسه ويومه وغده وإنما الكلمات ثلاث. فليتصد للإفادة، وليعلمهم مثل ما ذكر فيه من علم النحو نحو هذا وزيادة. وليكن للطلبة نجماً به يهتدي، وليرفع بتعليمه قدر كل حبر يكون حبراً له وهو المبتدأ. وليقدم منهم كل من صلح للتبريز، واستحق أن ينصب إماماً بالتمييز. وليورد من موارده أعذب النطاف، وليجر إليه كل مضاف إليه ومضاف. وليوقفهم على حقائق الأسما، ويعرفهم دقائق البحوث حتى اشتقاق الاسم هل هو من السمو أو من السما. وليبين لهم الأسماء العجمية المنقولة والعربية الخالصة، ويدلهم على أحسن الأفعال لا ما يتشبه بصفات كان وأخواتها من الأفعال الناقصة، وليحفظهم المثل وكلمات الشعراء، ولينصب نفسه لحد أذهان بعضهم ببعض نصب الإغراء. وليعامل جماعة المستفيدين منه بالعطف، ومع هذا كله فليترفق بهم فما بلغ أحد علماً بقوة ولا غاية بعسف.
وكما قال الشيخ جمال الدين بن نباته رحمه الله من جملة توقيع مدرس: ولأنه في البيان ذو الانتقاد والانتقاء. والعربي الذي كان لرقاب الفضلاء ابن مالك فإن قريبه أبو البقاء.
وكما كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في رسالة اقترحت عليه في هذا الباب وهي: حرس الله نعمة مولاي! ولا زال كلم السعد من اسمه، وفعله، وحرف قلمه يأتلف، ومنادي جوده لا يرخم وأحمد عيشه لا ينصرف ولا عدم مستوصل الرزق من براعته التي لا تقف الوصل ولا عدمت نحاة الجود من نواله كل موزون ومعدود، ومن فضله وظله كل مقصور وممدود. ولا خاطبت الأيام ملتمسه إلا بلام التوكيد، ولا عدوه إلا بلام الحجود، هذه المفاوضة إليه أعزه الله! تفهمه أنا بلغنا أن فلاناً أضمر سيدنا له فعلاً غدا به منتصباً للمكايد ومعتلاً وليس موصولاً كالذي بصلة وعائد. وما ذاك إلا لأن معرفتها داخلها التنكير. وقدر لها من الاحتمالات أسوأ التقدير. ونعوت صحبته تكررت فجاز قطعها بسبب ذلك التكرير. وسيدنا يعلم بالعلمية المدكون من الإنافة، وما لإضافته إلى جلالته من الانتماء الذي يجب أن يكون لأجله عيشه به خفضاً على الإضافة. وكان الظن أن الأشغال التي جمعت له لا تكون جمع تكسير بل جمع سلامة، وآية لا تكلف تعليماً على وصول لأنه في الديوان كالحرف لا يخبر به ولا عنه والحرف لست له علامة. وحاش لله! أن يصبح معرب إحسانه مبنياً، وأن نزيل كرمه يكون للنكرات بأي محكياً أو أن يأتي سيدنا بالماضي من الأفعال في معنى الاستقبال. أو أن يجعل بدل غلطه الإبدال للاشتمال، أو يدغم من مودته مظهرا، أو أنه لا يجعل لمبتدأ محبته مخبرا، أو أن لا يكون له من أبنية تدبير سيدنا مصدرا، ولا برح سيدنا نسيج وحده في أموره! ولا زال حلمه يتناسى الهفوات لا يشتغل مفعوله عن فعله بضميره.

.النوع الرابع: المعرفة بالتصريف:

ويجب على الكاتب المعرفة به ليعرف أصل الكلمة، وزيادتها، وحذفها، وإبدالها فيتصرف فيها بالجمع والتصغير والنسبة إلهيا وغير ذلك: لأنه إذا أراد جمع الكملة أو تصغيرها أو النسبة إليها ولم يعرف الأصل في حروف الكلمة وزيادتها وحذفها وإبدالها، ضل حينئذ عن السبيل، ونشأ من ذلك مجال للعائب والطاعن.
قال ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر: وتظهر لك فائدة ذلك ظهوراً واضحاً فيما إذا قيل للنحوي الجاهل بعلم التصريف كيف تصغير لفظة اضطراب فإنه يقول ضطيريب، ولا يلام في ذلك لأنه الذي تقتضيه صناعة النحو، لأن النحاة يقولون إذا كانت الكلمة على خمسة أحرف وفيها حرف زائد أو لم يكن حذفته منها، نحو قولهم في منطلق مطيلق وفي جحمرش جحيمرش. ولفظة منطلق على خمسة أحرف وفيها حرفان زائدان هما الميم والنون، إلا أن الميم زيدت فيها لمعنى فلذلك لم تحذف وحذفت النون وأما لفظة جحمرش فخماسية لا زيادة فيها وحذف منها حرف أيضاً. فإذا بنى النحوي على هذا الأصل، فإما أن يحذف من لفظة اضطراب الألف أو الضاد أو الطاء أو الراء أو الباء. وهذه الحروف غير الألف ليست من حروف الزيادة فلا تحذف بل الأولى أن يحذف الحرف الزائد ويترك الحرف الأصلي فيصغر لفظة اضطراب حينئذ على ضطيريب، ولم يعلم النحوي أن الطاء في اضطراب مبدلة من تاء وأنه إذا أريد تصغيرها تعاد إلى الأصل الذي كانت عليه. فيقال ضتيريب فإن هذا مما لا يعلمه إلا التصريفي والنحاة أطلقوا ما أطلقوه من ذلك اتكالاً منهم على تحقيقه من علم التصريف، إذ كل من النحو والتصريف علم منفرد برأسه، فتكليف النحوي الجاهل بعلم التصريف إلى معرفة ذلك كتكليفه ما ليس من علمه.
قال: فثبت بما ذكر أن علم التصريف مما يحتاج إليه لئلا يغلط في مثل ذلك. قال: ومن العجب أن يقال إنه لا يحتاج إلى معرفة التصريف وهذا نافع بن أبي نعيم وهو من أكبر القراء السبعة قدراً وأفخمهم شأناً قد قال في معايش معائش بالهمز، وهذه اللفظة مما لا يجوز همزه بإجماع من علماء العربية: لأن الياء فيها ليست مبدلة من همزة وإنما الياء التي تبدل من الهمزة في هذا الموضع تكون بعد ألف الجمع المانع من الصرف ويكون بعدها حرف واحد ولا يكون عيناً نحو سفائن، ولم يعلم نافع الأصل في ذلك فأخذ عليه وعيب عليه من أجله وذلك أنه اعتقد أن معيشة على وزن فعيلة تجمع على فعائل ومن ينظر إلى أن الأصل في معيشة معيشة على وزن مفعلة لأن أصل هذه الكلمة من عاش لكن أصلها عيش على وزن فعل، ويلزم مضارع فعل المعتل العين يفعل لتصح الياء نحو يعيش ثم تنتقل حركة العين إلى الفاء فتصير يعيش ثم يبني من يعيش مفعول فيقال معيوش به كما يقال مسيور به، ثم يخفف ذلك بحذف الواو فيقال معيش به كما يقال مسير به، ثم تؤنث هذه اللفظة فتصير معيشة. ومن جملة من عابه أو عثمان المازني فقال في كتابه في التصريف: إن نافعاً لم يدر ما العربية.
وحكى أبو جعفر النحاس أن عبيد الله بن سليمان نظر في بعض كتب الكتاب فإذا فيه حرف مصلح هو: وقد لهوت عن جباية الخراج، فاغتاظ وقال لا يحكه غيري فحكه فأصلحه: وقد لهيت بالياء، بدل الواو. قال وحكي عن أحمد بن إسرائيل مع تقدمه في الكتابة أنه قال: وكانت رسومهم مساناة ثم صارت مشاهرة ثم صارت مياومة ثم صارت مساعاة، فأخطأ، وكطان يجب أن يقول مساوعة. قال في المثل السائر: وكثيراً ما يقع أهل العلم في مثل هذه المواضع فكيف الجهال الذين لا معرفة لهم بها ولا إطلاع لهم عليها، وإذا علم حقيقة الأمر في ذلك لم يقع الغلط فيما يوجب قدحاً ولا طعناً، قال: وقد وقع الغلط لأبي نواس فيما وهو أظهر من ذلك، وهو قوله في صفة الخمر:
كأن صغرى وكبرى من فواقعها ** حصباء در على أرض من الذهب

فإن فعلى أفعل لا يجوز حذف الألف واللام منها وإنما يجوز حذفها من فعلى التي لا أفعل لها نحو حبلى إلا أن تكون فعلى أفعل مضافة وها هنا قد عريت عن الإضافة وعن الألف واللام وكان الصواب أن يقال: كأن الصغرى والكبرى أو كأن صغراها وكبراها. فانظر كيف وقع أبو نواس في مثل هذا الموضع مع قربه وسهولته، وغلط أبو تمام أيضاً في قوله:
بالقائم الثامن المستخلف اطأدت ** قواعد الملك ممتداً لها الطول

فقال اطأدت والصواب اتطدت لأن التاء تبدل من الواو في موضعين أحدهما مقيس عليه كهذا الموضع: لأنك إذا بنيت افتعل من الوعد قلت اتعد وكذلك اتطدت في البيت فإنه وطد يطد كما يقال وعد يعد فإذا بني منه افتعل قيل اتطدت ولا يقال اطأد، وأما غير المقيس فقولهم في وجاه تجاه، وقالوا تكلان وأصله الواو لأنه من وكل فأبدلت الواو تاء للاستحسان. ثم قال: إن المخطئ في التصريف أندر وقوعاً من المخطئ في النحو لأنه قلما تقع له كلمة يحتاج في استعمالها إلى الإبدال والنقل في حروفها. والمعصوم من عصمه الله، والكلام في تصرف الكاتب في التصريف على ما تقدم في النحو.

.النوع الخامس: المعرفة بعلوم المعاني والبيان والبديع:

وفيه مقصدان:

.المقصد الأول في وجه احتياج الكاتب إلى ذلك:

اعلم أنه لما كانت صناعة الكتابة مبنية على سلوك سبل الفصاحة واقتفاء سنن البلاغة، وكانت هذه العلوم هي قاعدة عمود الفصاحة ومسقط حجر البلاغة، اضطر الكاتب إلى معرفتها، والإحاطة بمقاصدها. ليتوصل بذلك إلى فهم الخطاب، وإنشاء الجواب، جارياً في ذلك على قوانين اللغة في التركيب، مع قوة الملكة على إنشاء الأقوال المركبة المأخوذة عن الفصحاء والبلغاء، من الخطب والرسائل والأشعار من جهة بلاغتها وخلوها عن اللكن، وتأدية المطلوب بها، وتكميل الأقاويل الشعرية نثراً كانت أو نظماً، في بلوغها غايتها وتأدية ما هو مطلوب بها، وأنها كيف تتعين بحسب الأغراض لتفيد ما يحصل بها من التخيل الموجب لانتقال النفس من بسط وقبض، والشيء يذكر بضده، فيذكر المحاسن بالذات والعيوب بالعرض.
قال أبو هلال العسكري: فإن صاحب العربية إذا أخل بطلب هذه العلوم، وفرط في التماسها، فاتته فضيلتها، وعلقت به رذيلة فوتها، وعفى على جميع محاسنه، وعمى سائر فضائله، لأنه إذا لم يفرق بين كلام جيد وآخر رديء، ولفظ حسن، وآخر قبيح، وشعر نادر، وآخر بارد، بان جهله وظهر نقصه، وإذا أراد أن ينشئ رسالة أو يضع قصيدة وقد فاتته هذه العلوم، مزج الصفو بالكدر، وخلط الغرر بالعرر؛ فجعل نفسه مهزأة للجاهل، وعبرة للعاقل. وكذلك إذا أراد تصنيف كلام منثور أو تأليف شعر منظوم وتخطى هذه ساء اختياره، وقبحت آثاره، فأخذ الرديء المردود، وترك الجيد المقبول، فدل على قصور فهمه، وتأخر معرفته. مع ما في هذه العلوم الثلاثة من الوسيلة إلى فهم كتاب الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم اللذين منهما يستمد الكاتب شريف المعاني، ويستعير فصيح الألفاظ، بل منهما تستفاد سائر العلوم وتقتبس نفائس الفضائل. قال: وقبيح لعمري بالقيه المؤتم به، والقارئ المقتدى بهديه، والمتكلم المشار إليه في حسن مناظرته، وتمام آلته في مجادلته، وشدة شكيمته في حجاجه، وبالعربي الصليب، والقرشي الصريح، أن لا يعرف فهم إعجاز كتاب الله إلا من الجهة التي يعرفها منها الزنجي والنبطي، وأن يستدل عليه بما يستدل به الجاهل الغبي.
على أن الشيخ بهاء الدين السبكي رحمه الله قد ذكر في شرح تلخيص المفتاح أن أهل مصر لا يحتاجون إلى هذه العلوم وأنهم يدرونها بالطبع، فقال في أثناء خطبته: أما أهل بلادنا فهم مستغنون عن ذلك بما طبعهم الله تعالى عليه من الذوق السليم، والفهم المستقيم، والأذهان التي هي أرق من النسيم، وألطف من ماء الحياة في المحيا الوسيم، أكسبهم النيل تلك الحلاوة، وأشار إليهم بأصابعه فظهرت عليهم هذه الطلاوة، فهم يدركون بطباعهم ما أفنت فيه العلماء فضلاً عن الأغمار، الأعمار، ويرون في مرآة قلوبهم الصقيلة ما احتجب من الأسرار خلف الأستار.
والسيف ما لم يلف فيه صيقل ** من طبعه لم ينتفع بصقال

فيا لها غنيمة لم يوجف عليها من خيل ولا ركاب، ولم يزحف إليها بعدو عيدية ولا بلحقا لاحق وانسكاب سكاب؛ فلذلك صرفوا هممهم إلى العلو التي هي نتيجة أو مادة لعمل البيان، كاللغة والنحو والفقه والحديث وتفسير القرآن: ثم قال: وأما أهل بلاد الشرق الذين لهم اليد الطولى في العلوم، ولا سيما العلوم العقلية والمنطق، فاستوفوا هممهم الشامخة في تحصيله، واستولوا بجدهم على جملته وتفصيله. ووردوا مناهل هذا العلم فصدروا عنها بملء سجلهم، وكيف لا وقد أجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم. فلذلك عمروا منه كل دارس، وعبروا من حصونه المشيدة ما رقد عنها الحارس. وبلغوا عنان السماء في طلبه، ولو كان الدين في الثريا لناله رجال من فارس. إلى أن خرج عنهم المفتاح، فكأن الباب أغلق دونهم، وظهر من مشكاة بلاد الغرب المصباح، فكأنما حيل بينه وبينهم. وأدارت المنون على قطبهم الدوائر، فتعطلب بوفاته من علومه أفواه المحابر وبطون الدفاتر. وانقطعت زهراتهم الطيبة عن المقتطف، وتسلط على العضد لسان من يعرف كيف تؤكل الكتف. فلم نظفر بعد هؤلاء الأئمة رحمهم الله من أهل تلك البلاد بمن مخض هذا العلم فألقى للطالب زبدته، ومحض النصح فنشر على أعطاف العاري بردته، ولا حملت قبول القبول إلينا عنهم بطاقة، ولا حصلت للمتطلعين لهذا العلم على تلك الأبواب طاقة، ولا رأينا بعد أن أنطمست تلك الشموس المشرقة، واندرست طبقة تحري الفرقة، ولم يبق إلا رسوم هي من فضائلهم مسترقة. من أطلع غصن قلمه من روض الأذهان زهرة على ورقة، ولا من علق شنه بطبقتهم فيقال وافق شن طبقة، بل ركدت بينهم في هذا الزمان ريحه، وخبت مصابيحه، وناداهم الأدب سواكم أعني: ورب كلمة تقول دعني.
وما بعض الإقامة في ديار ** يهان بها الفتى إلا بلاء

فعند ذلك أزمع هذا العلم الترحل، وآذن بالتحول.
وإذا الكريم رأى الخمول نزيله ** في منزل فالرأي أن تيحولا

وفزع إلى مصر فألقى بها عصا التسيار، وأنشد من نادى من تلك الديار.
أقمت بأرض مصر فلا ورائي ** تخب بي الركاب ولا أمامي

ولقد أحسن رحمه الله في بيان السبب، والتعويل في انجبال أهل مصر على هذا العلم على علاقة الصهر والنسب حيث قال في أوائل خطبته في أثناء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما خفقت للبلاغة راية مجد في بني غالب بن فهر، وتعلقت بأزمة الفصاحة أهل مصر: لما لهم من نسب وصهر.
قال الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي رحمه الله في كتابه حسن التوسل إلى صناعة الترسل: وهذه العلوم وإن لم يضطر إليها ذو الذهن الثاقب، والطبع السليم، والقريحة المطاوعة والفكرة المنقحة، والبديهة المجيبة، والروية المتصرفة، لكن العالم بها متمكن من أزمة المعاني، وصناعة الكلام، يقول عن علم، ويتصرف عن معرفة، وينتقد بحجة، ويتخير بدليل، ويستحسن ببرهان، ويصوغ الكلام بترتيب.
وحقيق ما قاله. فإن الأديب والكاتب العاريين عن هذه العلوم قاصران، عن أدنى رتب الكمال يحيدان، ولا يدريان كيف يجيبان؛ فلو سئل كل منهما عن علة معنى استحسنه أو لفظ استحلاه أو تركيب استجاده، لم يقدر على الإتيان بدليل على ذلك.
وقد حكى الإمام عبد القادر الجرجاني قال: ركب الكندي المتفلسف إلى أبي العباس وقال له: إني أجد في كلام العرب حشو- فقال له أبو العباس في أي موضع؟- قال: وجدت العرب تقول عبد الله قائم ثم يقولون إن عبد الله قائم ثم يقولون إن عبد الله لقائم فالألفاظ متكررة والمعنى واحد فقال له أبو العباس: لا، بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ، فقولهم عبد الله قائم إخبار عن قيامه، وقولهم إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل، وقولهم إن عبد الله لقائم جواب على إنكار منكر قيامه، فما أحار المتفلسف جواباً. فإذا ذهب مثل هذا على الكندي فما الظن بغيره؟ وإن كان من محاسن الكلام ما لا يحكم في امتزاجه بالقلوب غير الذوق الصحيح كما قال الشاعر:
شيء به فتن الورى غير الذي ** يدعى الجمال ولست أدري ما هو

لكن الغالب في الكلام أن يعلم سبب تحسينه، وتعليل مواد تمكينه ويجاب عن العلة في انحطاطه وارتفاعه، ويذكر المعنى في ارتقائه من حضيض القول إلى يفاعه.
قلت: وهذا العلم وإن شحن أئمة الكتاب: كما قال أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين والوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر والشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في حسن التوسل فإنه ليس مختصاً بفن الكتابة هو آلة لكل كلام اقتضى البلاغة، كما أن المنطق آلة لكل العلوم العقلية، التي يحتاج منها إلى تصحيح الفكر.
وقد كثر الناس من المصنفات فيه كالرماني والجرجاني وغيرهما؛ وأكثر اعتماد أهل الزمان فيه على تلخيص المفتاح للقاضي جلال الدين القزويني فأغنى ما وضع فيه عن إيراده هنا.